الاثنين، 23 فبراير 2015
حوارات:
·
الشاعر "شواف".. والسياسي لا يرى أبعد من أرنبة أنفه
·
مرض محجوب شريف نتيجة لكبتة في السجن لأكثر من نصف
عمره
·
مقبول من السياسي أن يعارض الحكومة ومرفوض ذلك من المثقف
·
أعزف على العود والكمان.. وأصف صوتي بـ (الأخرش)
·
الإنقاذيون دمروا مشروع الجزيرة وطمروا كل ممسكات الوحدة الوطنية
·
أمل السودان في تغيير كل الدماء الآسنة
·
بهنس يشبه الطيف وهذه ذكرياتي معه
مرباعك كتم يا الما بي ما تتهجا
من كتر الغباين والهموم والرجه
إلا يمن علي شيطاني ماليو حجه
يا أنا يا الغرور بتشيلنا هادي الفجة
الشاعر الكبير محمد طه القدال استطاع بمفردته البدوية وأفكاره السياسية أن يكون مدرسة شعرية عصية على التكرار وأثبت أن للشعر جماهيرية تفوق الفنون الأخرى وفعالية تبز السياسة، وأصبحت تجربته الشعرية اللامعة لصيقة بقضايا السياسة والاقتصاد والإنسانية، بل هي أشبه ما تكون (بالمنشورات السرية) التي توزع يومياً معترضة على كل ما هو (أعوج) وساخطة على معالم القبح والإخفاق والفساد واتخذ من وسائل التواصل الاجتماعي منبراً يومياً مجانياً لتعليق هذه المنشورات العصية على (التمزيق) وواظب على كتابتها منذ أغسطس المنصرم وحتى تاريخ نشر هذا الحوار، فنبتت بمربعاته تلك أجنحة للشعر حلق بها في سماء الكادحين والفقراء واستطاع فقط بمربعه الشهير والأثير:
أيدين الكريم جنحين تجيب المافي
والقلب الكبير طيب يغطي ودافي
البرد النزل فوق العديم والحافي
أبقالو الغطا بتبقى الطبيب الشافي
أن يسهم في جمع أكثر من (ألف غطاء) وزع مجاناً للأرامل واليتامى
وكل من به خصاصة..
هذا الرجل يشبه أسطورة أورفيوس الإغريقية، فأورفيوس عندما يعزف
بقيثارته تنحني أشجار البلوط العالية وتشرئب قمم الجبال، بل أنه استطاع بموسيقاه
أن يسحر (نوتي) الموتى في عالم الأرواح الأبدية، وكذا القدال ابتدع مع آخرين
مدرسة الموضوع لا الذات، مدرسة تسعى لقول كلمة لا، وتغيير الواقع بالكلمات، إنه مثال
للمثقف الوطني والشاعر الغيور الذي استطاع سحر العالم باللغة.
* من أين جاءتك فكرة المربعات اليومية؟
ـ من الشباب
* كيف تفاصيل أكثر لو سمحت؟
بالتزامن مع حملة (نفير)، التي قادها شباب وشابات (بسروا) القلب أثبتوا أن أمل السودان في هؤلاء الفتية والفتيات أعمارهم خضراء يانعة وقلوبهم بيضاء ولديهم تفانٍ ونكران للذات نادر الوجود، فمن كان يردد حولهم "شباب صايع وشباب الفيس" أثبتوا بالدليل القاطع أنهم نساء ورجال سودانيون بالمعنى العميق للكلمة وقاموا بدور الدولة والمجتمع معاً في السيول والأمطار الفائتة وأتتهم أموال وتبرعات معتبرة من أبناء السودان الأخيار داخل وخارج البلاد، فما كان منهم إلا أن تعاملوا بمنتهى الشفافية والمصداقية وقاموا برفع كشوفات عن كل قرش استلموه وعن الاحتياجات التي قاموا بشرائها وتوزيعها فأعطوا الآخرين دروساً راجحة في مبدأ الشفافية ومحاربة الفساد والاسترزاق من مصائب العباد، فكانت تجربة (نفير) لفتة بارعة ومهمة أعادت الثقة في جيل بأسره قمت بزياراتهم وكان إسهامي هو تعهدي بمرباع يومي استمر حتى الآن وتشعب بين السياسة والمعيشة اليومية والآلام الإنسانية في أقسى صورها
* فكرة المربعات القصيرة التي تختزل رسالة عميقة هل استلهمتها من تجربة صلاح جاهين؟
صلاح جاهين شاعر وسيناريست له كتاب كامل في هذا الضرب .. المسحراتي. ومع التقدير لتجربته، لكني ضد تغريب الأفكار وردها إلى بيئات غربية ومغايرة، ما نحن عندنا الدوبيت وأدب المسادير، فمن باب أولى أستقي الفكرة من المحلية دون الجنوح للبحث عنها في الخارج، مع العلم أن الأبنودي حالياً يقوم بذات الشئ ويرسل مربعات يومية عبر حسابه في تويتر وأيضاً تجد صدى طيباً للغاية من متابعي مسيرة الشعر.
* برغم عدم تفرغك لمسألة الكتابة ومساهمتك المستمرة في النشاطات الثقافية وأعباء الأسرة والوظيفة كيف استطعت إيجاد زمن لكتابة الشعر اليومي؟
في هذا السؤال قد ألمح إيماء الفطرة والصناعة عموماً الشعر هو استجابة لمحفز خارجي والسودان ملئ بالمحفزات حد النخاع والأفكار (على قفا من يشيل) لذا لا أجد صعوبة في الكتابة على الإطلاق والوقت والجهد الحقيقي أبذله في توزيع هذه المربعات فلدي أكثر من مائتي شخص في (الواتس) وأكثر من خمسة ألف في (الفيس) ولابد أن ترد على أكبر قدر فكل شخص يكون لديه تعليق بشأن الشعر المكتوب هذا ما يأخذ مني وقتاً أكبر، أما الشعر في حد ذاته فهو رسالة سامية وشرف كبير أن أحملها على عاتقي يومياً وأواظب عليها بمحبة ورجاء في حدوث التغيير الذي نحلم به.
* المتابع لمربعاتك يجدها تختط آراء في قضايا الاقتصاد مثلاً:
المغسة الجزيرة وزارعا وعمالا
فاردة جناحا للريد الطويل فتاله
وين يا طيب هواها وخدرتا الكتالة
ماذا عن مشروع الجزيرة؟
باختصار شديد مشروع الجزيرة ذلك الحلم الأخضر الذي وُئِدَ في ذروة
عطائه تتحمل حكومة الإنقاذ وزر قتله إلى يوم القيامة وهو مثال فقط من أخطائهم
العديدة القاتلة، فالآن دول الخليج (أسياد آبار النفط ذاتا) يتجهون إلى الزراعة
وصناعة حتى الأمطار لتحضير أرضهم ونحن الذين حبانا الله بأرض خصبة ودود ولود وأكبر نهر
في العالم وسماء مدرارة نترك كل هذا ونحطمه مع سبق الإصرار والترصد ونهرول خلف النفط
ليذهب النفط كما ذهبت الزراعة ونكون مثل (المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)،
ومشروع الجزيرة (دا) أرض انسيابية لو (كشحت فيهو كوز موية) في سنار يصل أبوقوتة يروى
ويخضر ويثمر والقطن سلعة مطلوبة ومرغوب عالمياً ويمكن أن يوفر عمالة لجيش
الشباب الجرار المتوقف عن العمل بفعل ذات السياسات الرعناء ويمكن أن يوفر بيئة
استثمار جاذبة لرأس المال الوطني والأجنبي، كل ذلك قضي عليه في هذا العهد دون سواه
من عهود الحكومات الوطنية المتعاقبة والمؤلم أن الجميع تجاهل الخير العميم الذي أغدقه
هذا المشروع على السودان حتى على المستوى الثقافي والاجتماعي فعمال المشروع
والموظفون والمهندسون كانوا يتوافدون من كل بقاع السودان الشمال والجنوب والشرق
والغرب ويتعايشون ويتثاقفون فهذا المشروع في ذهني هو واحد من أهم ممسكات الوحدة
الوطنية والشعور بالقومية وقبول الآخر، كل هذه المعطيات وأكثر ذهبت مع الريح،
واليوم نستمع إلى وعود جوفاء هنا وهناك عن إعادته إلى سيرته الأولى وهو أمر مستحيل في
هذه الظروف المعقدة، فأين السكة الحديد وأين المحلج وأين التقاوي حتى؟!.. فالجزيرة كانت زهرة وسط بستان جف
وتساقط كل ما فيه ووجه الحل عندي لنهضته ونهضة السودان ككل ذهاب هؤلاء الحكام ناس
الإنقاذ ديل يمشوا أول حاجة بعديها بندير حالنا ونعيد بناء ما أتلفوه.
* لماذا المثقف في كل زمان ومكان حانق على كل السلطات؟
يعني عاوزانا نعمل شنو؟ الآن سردت ليك بالوقائع والبراهين الدلائل القاطعة تدمير أكبر مشروع زراعي في الوطن العربي ودونك الخدمة المدنية التي تم تسييسها وطرد كل الأشخاص غير الموالين للنظام، أنت بتطرد الناس من وين؟ من بلدهم؟ السودان دا للجميع العربي والزنجي اليمين واليسار وأكبر وأبقى مننا جميعاً، أنا عن نفسي بقول لا لكل ما أراه ظالم وغير منطقي وما (بخش الرأس) ببساطة تطرد مواطنين أكفاء عشان تأتي بمنسوبيك بالطريقة دي أفضل تشتري ليك (قطعة واطاه في أي فجة) وتجيب منسوبيك تحكمهم لكن السودان أكبر بكثير من كده و...
* بماذا تحلم بالضبط وما هي آلياتك لتحقيق حلمك حتى لا يظل مثالاً عصياً على الواقع؟
شوفي أي شاعر كائن شواف وأي سياسي ما بقدر يشوف أبعد من أرنبة أنفه
وإلا لما تمزق السودان وانفصل الجنوب والآن هنالك جروح ملتهبة نخاف من تكرار البتر
إذا لم نقف ونقول كلمة الحق في وجه من رضي ومن أبى، الحل عندي في تطهير الساحة من
الدماء الآسنة وإعطاء مساحة للشباب الوطني الغيور والمتحمس ليكون فاعلاً لا مفعولاً
به ليقول كلمته بلسانه لا بيد المتشدد
* الناظر للحياة السودانية يجد (شيزوفرينيا) غريبة الغلبة السياسية للتيارات الإسلامية والغلبة الأدبية لتيار اليسار..؟!
* الناظر للحياة السودانية يجد (شيزوفرينيا) غريبة الغلبة السياسية للتيارات الإسلامية والغلبة الأدبية لتيار اليسار..؟!
أولاً كلنا مسلمين، أما حكاية التأسلم دي أنا ما بعرفا!
نحن من عام ١٥٠٥م أقمنا السلطنة الرزقاء وظهرت الخلاوي والطرق الصوفية يعني تأريخياً نحن نعرف الله جيداً، أما استخدام الدين لتحقيق المكاسب السياسية واكتساح الانتخابات فلا وألف لا، والله عز وجل في قرآنه الكريم قال: (أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) أين الإسلام من انتشار الفساد وأين الإسلام من المحسوبية؟ فالإسلام الذي أعرفه واحد وليس لي لذراع الحقيقة لمكاسب دنيوية هو إسلام الرحمة للعالمين (ليس منا من بات شبعاناً وجاره جائع) وهو إسلام العدل (لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمدٌ يدها)، هذه هي صورة الفصام الحقيقية أن تجعل من الإسلام لبوساً للتعبئة والمصلحة وتنكص عنه في الرحمة والعدالة، أما أدباء اليسار وتقدمهم فأنا أزعم أنه لا يدانيهم في المجد أحد ويكفي أن منهم (شاعر الشعب) محجوب شريف الذي فيه واحد من مربعاتي اليومية:
ما بتشكي الجوة صدرك لا بتطأطئ ولاك مكابر
لا السجون هدت مقامك لا الزنازين لا العنابر
للضعيف مرشوش براحك للظلوم قولك مقابر
يا فصول فاتحة بتعلم حب وطن ممكون وصابر
وللحقيقة محجوب مدرسة فريدة شعرياً وإنسانياً لا يمكن تكرارها وما به من داء هو نتاج لشجاعته ورفضه وقول الحق الذي جعله يقضي أكثر من نصف عمره حبيساً في سجون الأنظمة السياسية المتعاقبة وتتحمل ذنبه الحكومات المتعاقبة إلى هذه القائمة بالقسر.
* أبرز ما يميز محجوب تشبثه بموقفه وعدم تصادمه مع الآخر المغاير ولعل قصيدة (يلا يا نقد الله يلا) أبرز مثال؟
محجوب حالة عصية على المقايسة وسماء لم ينم في رحمها نجم غيره، وكلنا يدعو لسودان متعايش ومتنوع ومقياس المفاضلة فيه الكفاءة وقبلها المواطنة، هذا هو الوطن الذي نغنيه:
بحلم بوطن حمدت تقاتو طيورو
بحلم بو القبيل عشناه والبندورو
يقدل فيه جنياتو اليغنوا سرورو
ما وطناً طفش جنياتو حت زرزورو
* بالعودة لفكرة المربعات من جديد نجد أنها تمثل (تأرخة) للأحداث والأمكنة مثلاً دي (الجنة وعسلها وحورها في ها الديرة)؟
نعم... المربعات بطريقة غير مقصودة أصبحت أشبه بالتوثيق اليومي لأبرز الأحداث في السودان وأيضاً أبرز ما أمر به من أحداث وأمكنة وكتبت المربعات والمخمسات اليومية بلهجات عربية بالإضافة إلى السودانية.. مثلاً كلمة (ها الديرة) هي تحيلك مباشرة إلى ثقافة الإمارات ذاتها، وللأمانة في كل جولاتي الخارجية ما أن يقع ناظري على جميل حتى أتمنى دوامه لأهله وأن يكون للسودان مثله ومن ما كتبته عن الإمارات:
توحيد الإمارات عيد وهل هلالو
الدنيا ازدهت والشعب نال النالو
والحاكم حكم بالحكمة ريح بالو
وين الكان موحد بهدلوهو عيالو
فالإمارات كان أهلها بداة ومتفرقين فوجدوا رجلاً عظيماً واحداً
جمع كلمتهم ووحدهم ونقلهم من البداوة إلى العلم والحضارة العمران فهو الذي (حكم
بالحكمة وريح بالو) الشيخ زايد والكثير من الإمارات أسهم في بنائها المهندسون
السودانيون وبلدية دبي أدارها سوداني ولكن أين الإمارات وأين نحن الآن فنحن في نكسة
بعد نهضة وفي شتات بعد وحدة.
* المربعات أيضاً اخترقت ما هو سياسي لما هو إنساني وكان مربع بهنس ورحيله الدراماتيكي المرير وبكائية في زمن موت الإنسانية؟
المربوع بقول:
يا بسمتك تلك الخجولة الحاننت منفاك
حزن العين خجل طايف على مرفاك
حبيت مسارب دي البلد إلا البلد جافاك
مديت أياديك للحبيب ما نلت من يلفاك
بهنس كان يشبه الطيف إلى حد بعيد، يغيب عنك شهوراً طويلة ثم تجده في وجهك مباشرة وكانت له رؤى نقدية حاذقة مثلاً قال لي ذات مرة ـ إن في شعرك لغة نسائية ـ وقد صدق فلدي مفردات استقيتها من (أمي وحبوبتي)، وكان له صوت مميز جداً ومجبول على الهدوء وكثيراً ما صادفته حاملاً (جيتاره) وقرأ لي بعض القصائد، وموته كان فاجعة بكل ما لهذه الكلمة من مرارة وطال الجميع شعور خانق بالتقصير بعد رحيله بتلك الطريقة اللا إنسانية، في ذات الوقت قد انتقم لتجاهله ونسيانه بهذا الموت الذي جعله حياً أكثر من ذي قبل! وأعتقد أنه واحد من الجراح التي لن تبرأ أبداً..
* في ذات المربعات إفادة من عيون النصوص السودانية القديمة وتناص معها مثلاً:
أندب حظي أم آمالي ** دهري جفاني مالو ومالي؟
الطناس موجود حتى مع نصوصي القديمة مثلاً كتبت في ذكرى رحيل
مصطفى:
بقول غنواتي في البلد العنيدة
وأجرتق بيها في أحزانا عيدا
وبحلم بجناها يشيل نشيدا
وأقول غنواتي في الولد البريدا
أنادي المصطفى البعرف قصيدا
نخلتو شمال جزيرة الضل جريدا
وفي هذا المربع تناص مع قصيدتي التي لحنها وغناها مصطفى ومنها:
بقول غنواتي في البلد البسير جنياتها لي قدام
وفي الولد البتل ضرعاتو في العرضة ويطير في الدارة صقرية
ولو السمحة تلت إيد ومدت جيد
تقوم شايلاهو هاشمية
يشيل شبالو ختفة ريد
وفرحة عيد وريدة روح وحمرة عين .. وإيدية
أما التناص الذي أشرتِ إليه في سؤالك كتبت فيه مربوع:
أندب حظي أم آمالي وحزنو قصدني مالو ومالي؟
في البلا والبلادة أقوالي اليوم تنزلق يا خالي
بشوفا تحوم علينا سحالي .. سحالي وخمستا الأسمالي
بكوكو حرام مسلح جالي ولا أظن يكون من مالي؟
والذي أود أن أقوله في موضوع المربعات أنها امتداد للشعر السوداني الذي ظل في مختلف مراحله مؤرخاً للحياة السودانية بدقائقها وتفاصيلها الصغيرة، فحتى أغنيات البنات على ما فيها من سهولة في الكلمات والألحان معاً إلا أنها احتفظت بخاصية (التأرخة) هذه ودونك الأغنية الشهيرة (للفلاتية (الليمون سقايتو علي) تتحدث عن الغارات التي شنت على الخرطوم في ذلك الوقت ولكنها لم تصب أياً من الأهداف المهمة حتى أن واحدة منها أصابت (حمار كلتوم) سيدة كانت تبيع اللبن في الأحياء (طيارة جات تحوم ـ ضربت حمار كلتوم ست اللبن) فكل المنتوج الشعري السوداني حمل ذات الخاصية والمربعات اليومية التي أكتبها هي امتداد لسمة التأرخة تلك، فمثلاً عند أزمة الرغيف وارتفاع سعره وصغر حجمه كتبت:
الليلة السقط لفح الحرور في جوفو
العيش الصبح بالمايكرسكوب ما نشوفو
عدنا نعد جراماتو ونقيف في صفوفو
وحتى الأحداث الدينية البارزة أيضاً وجدت نصيبها في هذه المرابيع مثلاً ذكرى ميلاد الرحمة المهداة إلى العالمين محمد صلى الله عليه وسلم كتبت:
النور انبهر بالكون بعد ما ضلم
والجاهل عبر بالنور صبح متعلم
القلب انغمر بالنور وكان متألم
أديهو المقام يا رب وصلي وسلم
وحتى الظواهر التي قد يراها البعض صغيرة لا تسترعي انتباه أحد مثل فرض رسوم ترفيه على زيارة الأسر لغابة السنط أو الصفوف الطويلة لشباب في زهرة عمرهم وأساتذة جامعاتها وأطباء ومهن أخرى يصطفون من أجل الهجرة إلى بلد أخرى توفر لهم سد الرمق واللقمة الحلال والعيش الكريم والمجاهد لأجل بناء المستقبل:
شن سبباً يفضي عيالنا في اللوتاري
غير اللك وحب العك وشوت ضفاري
*بل المرابيع تجاوزت هموم الداخل لتتحدث عن علاقات السودان الخارجية أيضاً تلميحاً في:
رافض السنة والسلف ولاعن عاشة والخلف
ركع ليهو تجرو حفا كما الحجاج بمزدلفا؟
الكلمة لها علاقة بكل شئ بدأ بقفة الخضار اليومية وليس انتهاءً بالسياسية، والتغييرات الجذرية التي أحدثت تغييراً في سلوك البشر وعبادتهم وحضارتهم لم تكن إلا عن طريق الكلمة فهداية البشرية إلى الله وإظهار دين الحق تم بالكلم المبارك (القرآن الكريم) والنظريات الاجتماعية التي طبقت وفيها محاولة لإزالة الفروقات وإفشاء العدالة أصلها كلمة فإذا كان الدخول في دين الله أفواجاً تم عن طريق وليس السيف والحرب فمن باب أولى أن تشمل الكلمة الشعرية هموم الداخل وعلاقات الخارج أيضاً، وأنا أقولها بالفم المليان السودان (دا) ملك حر لكل السودانيين لا بضاعة بأيدي ساسة الإنقاذ الذين أفسدوا كل ما فيه حتى مزاج الناس (تعكر باخ) والذين يدَّعون الدعوة إلى الله يسهمون الآن في تمكين (لاعن عاشة والخلفاء) دا ما فصام؟!!
*إذا عدنا بك من زمهرير السياسة إلى دفء الفنون ما علاقتك بالغناء والموسيقى وقد سمعتك مغنياً لقصيدة محجوب شريف؟
مسألة الغناء أنا لا أدَّعي بأن صوتي جميلاً وأصفع (بالأخرش) ووردي كان يردد أن الصوت الذي يغني لا يشترط فيه الجمال وإنما المقدرة على التعبير وإيصال المعنى وهذا ما أفعله، أما عزف العود فتعلمته منذ المدرسة المراحل الأولى وكنت مجيداً حينها والآن لدي عود في المنزل، لكن مشكلة الآلات الموسيقية أنها تحتاج إلى دربة دائمة ومران حتى تحافظ على مستوى العزف الذي وصلت إليه وإلى جانب العود كنت أعزف (الفايولين) عموماً أحس أن الآلات الموسيقية الوترية بها جرعات مكثفة من الشجن العميق ولديها مقدرة لا متناهية على إخراج المساحة الخضراء التي بداخلنا فهي تقوم بمهمتين مزدوجتين في آن، تطهير النفس من الآلام التي علقت بها وتتجاوز مساحة الحزن بسرعة الضوء لتمنحك طاقة إيجابية تدفعك إلى التفاؤل والسلام الروحي وعموماً كل الفنون خرجت من رحمٍ واحد وهي تحمل ذات الخصائص الوراثية في التعبير والتغيير والعالمية.
*لاحقتك كثيراً لأحصل على موافقتك في إجراء حوار، وبما أنك اشترطت أن ينحصر عن المربعات فقط، كيف ترى مستقبلها؟
هل رفضت الإجابة عن أي سؤال قمتِ بطرحه؟
*لا.. هل ستنشر في ديوان مثلاً.. وما هو تاريخ توقفها لاسيما أنها تأخذك من القصيدة المطولة؟
بدأت بالفعل في مشروع طباعة ديوان شعري لهذه المربعات.. المتنوعة التي أكملت ستة أشهر، ولكني لم أحدد اسماً بعينه مفردتي (نفير ومربعات) لابد من دخولها في الاسم وسيرافق الديوان تسجيل صوتي للنصوص والطريف أني بدأت الإعداد للطباعة بينما المربعات لا زالت تتوالى يومياً، وبالفعل أخذتني من كتابة القصيدة المطولة.
*ما هو رأيك في الساحة الشعرية الشبابية، لاسيما أن البعض يصفها بأنها ما زالت تدور في فلك استنساخ تجارب المثلث حميد والقدال وأزهري؟
في كل جيل تظهر مجموعة من الشباب لا يستطيعون الفكاك من أسر وتأثير الجيل السابق لهم، عموماً تقويمي للتجربة الشعرية الشبابية أن فيها استسهال للكتابة وعدم تجديد، فاللغة أصبحت مستهلكة والبحر واحد (مستفعل مستفعل مستفعل) الجميع يكرر ويندر من يخرج عن هذا النمط و(العك دا أغلبه في العامية)، ورغم ذلك توجد تجارب تحمل بذور الاختلاف والتنقيب عن المغاير والمدهش مثل تجربة عاصم الخزين.
*كلمة أخيرة.. أو سؤال مهم لم نسألك عنه؟
كلمتي الأخيرة أقول إن هذا الشعب بخير وعفي ولا زال قوياً فكما قال حميد:
(يا الحاسب سكاتنا رضى.. أمانة بطونا ما ها غراق
رضينا بلا حبل ننساق .. وحين نحرن جبل باساق)
والسيول والأمطار الفائتة كشفت عن معادن الشباب وهم وحدهم أمل السودان الوحيد القادر على الإصلاح وإعمار ما أتلفه هذا النظام على كل المستويات بدءاً من الخدمة المدنية ومشروع الجزيرة والسكة الحديد وحتى أخلاق الناس .. انظري للصحف التي تأتينا بالغريب المفزع على مستوى الجرائم التي ترتكب في حق الأطفال والإسلام الذي نعرفه هو (لو عثرت بغل بأرض العراق) وكلمتي أرجو ألا تقوموا بحذف كلمة واحدة مما قلته و..
*اطمئن لن يحدث وهذه الصفحة حاورنا فيها سياسيين قالوا أكثر حساسية مما ذكرت ونشر؟
عادي أن السياسي يقول كلاماً مناهضاً ورافض للوضع السياسي، أما المثقف فلا يقبل منه غير التطبيل وتأدية فروض الولاء والطاعة وألا يقص ويقمع ويحذف حديثه في الصحف ويصبح بعبعاً مخيفاً لا تقترب منه وسائل الاتصال المسموعة والمرئية.
*أشكرك عميقاً على وقتك وحماستك المصاحبة لكل حرف تفوهت به؟
وأنا شاكر لك، وتمنياتي لهذا الشعب الأبي الصابر بوضع أفضل ومستقبل زاهر بإذن الله، وسنواصل مسرتنا في النضال عن طريق الكلمة وكل الدولة المتقدمة تعير الثقافة اهتماماً متعاظماً وتجهز مراكز البحوث ودراسة الرأي لأخذ آراء المثقفين وتحليلها والإفادة منها في وضع الاستراتيجيات والخطط ويقتصر دور الساسة في الدفاع والعلاقات الخارجية وتنفيذ الرؤى القبلية لأهل الثقافة وسيأتي الصباح الذي ينعتق فيه السودان.
صحيفة الجريدة 21 فبراير 2014م
عفراء فتح الرحمن