الخميس، 11 ديسمبر 2014
حوار مع الأستاذ صلاح خليل
مؤسسة الأهرام للبحوث
تم نشر هذا الحوار في جريدة أخبار الأدب المصرية (تاريخ
النشر لاحقاً بعد التأكد)
فى قمة الهرم الزمانى لتراكمات التجربة السودانية فى
الشعر الشعبى بالوانه وتياراته المختلفة يتربع هذا الشاعر المدرسة محمد طه القدال
حاملاً فى شاعريته خصائص الأزمنة والأمكنة وتقاطيع الوجدان السودانى عبر قرى
الجزيرة وسهول البطانة ومرابع الجعلين ومراتع البقارة ومسارح الغزلان بين الفاشر
وغزالة جاوزت وخيول دارفور.
الرؤية السودانية القومية ما كان لها أن تتجسد فى وجدان
واحد إلا بعمق يقينه بقضية الهوية
السودانية ذلك الحلم الذى ظلت تطارده مواكب المثقفين وجموع الشعب السودانى وقليل
من الأحزاب وقلة من أصحاب القرار.
تأكيداً على أن الثقافة هى التى يقر بها قرار السلام وأن
الشعر هو حمامة الفكر، برز الى الساحة الأدبية فى السودان قلة قليلة جداً من
المعاصرين ويعدون على أصابع اليد الواحدة ممن تميزوا بهذا الوعى فعملوا على توصيل
رسالتهم هذه..فى مجالات الشعر والقصة والرواية أمثال محجوب شريف ومحمد طه القدال
ومحمد الحسن سالم حميد وعبد القادر الكتيابى شعراً والطيب صالح وابراهيم اسحاق
وعيسى الحلو في الرواية..ضيفنا من هؤلاء هذه المرة ..هو الشاعر الرمز محمد طه
القدال الذى ولد بقرية حليوة بالجزيرة الخضراء أوائل الخمسينيات من القرن الماضى تدرج
فى مراحله التعليمية بين الجزيرة والخرطوم حتى السنة الثالثة من كلية الطب جامعة
الخرطوم التى تركها انتصاراً للشعر والموسيقى والرسم. ثم طرق ابواب العمل الأدراى فى المنظمات ذات
الصلة بمجاله الطبى ، ظل متواصلا مع جمهوره منفعلاً بقضايا الوطن، القدال صوت شعرى
منفرد استفاد من تراكمات التجربة السودانية فخرج بزخيرة لغوية ثرية، أمتاز بتفصيل
فى رواياته الشعرية وقوة الأيقاع والأداء الدرامى لقصائده على المنابر
..ابتدرناه السؤال
لماذا يسمى زمنكم الأدبى وأعنى جيلكم (بالزمن الجميل)؟
لكل جيل إحساسه بجمال عهده واعتقاد جازم بأن زمانه هو
الزمان. ولكننا جيل أعقاب الاستقلال وقد حفظت ذاكرة الآباء والأمهات أنسام تقرير
المصير وعطر ذكريات السودنة وقبل ذلك أرضعونا الفخار بالبلاء في الحرب العالمية
الثانية وبشجاعة الجندي السوداني في شمال أفريقيا ثم في حرب فلسطين الأولى والبهاء
والاعتزاز بالاستقلال الوطني. نحن الجيل الذي وجد الخدمة المدنية مثل عقارب الساعة
(المضبوطة) لم تفسد بعد فتتأخر عن الموعد الحضاري ثانية واحدة ووجدنا السكة حديد
مثلاً تربط بين أقطار الوطن المترامي وتشد من الآصرة الاجتماعية من شرقه إلى غربه
ومن جنوبه حتى شماله, بدأب وحدب ودقة, ذلك قبل أن تهمل عمداً لمصلحة حفنة من
(لوبي) شركات النقل وأصحاب الشاحنات، فتتباعد طبعدها أطراف البلاد البعيدة أصلاً عن بعضها بحكم الجغرافيا
ويتمزق بعدها الوطن. نحن الجيل الذي كان يسمى (أولاد الحكومة) مع وقوفه المستمر ضد
خبل كل الحكومات. إنما سمي كذلك لسبب بسيط: لقد كان التعليم مجاناً والسكن
بالداخليات منذ المرحلة الابتدائية وحتى الجامعة وما يتبع ذلك من تمرغ في جنة
الميري المبذولة فرضاً لا تفضلاً. وجدنا المدرسة الممتلئة بالمعلم المربي المؤهل
والمدرب تدريباً دورياً والمتوفر على كل سبل الراحة ووسائل التدريس. وأنا هنا لا
أتحدث عن مدرسة نموذجية في عاصمة البلاد أو العواصم الولائية ولكنني أذكر مدرستي
الأولية بقرية النويلا في قلب ريف الجزيرة. تدهور كل ذلك من المعلم إلى الفصل إلى المنهج وبالتالي إلى
التلميذ. وجيلنا قرأ في مكتبة المدرسة وخارجها لأجيال الخمسينات والستينات في
الأدب والتي تعتبر أجيال الزمن الجميل على مستوى الوطن العربي. قرأنا لطه حسين
والعقاد والسياب والزيات والشابي والتيجاني والمجذوب والحاردلو الكبير والشيخ
حياتي وحاج الماحي واسماعيل حسن وفؤاد حداد وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي
ومظفر النواب واستمعنا لكرومة والكاشف ومحمد وردي ولجميع أقطاب حقيبة الفن ولأم كلثوم وعبد الحليم ومحمد
رشدي وفيروز وشادية والشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم. نحن جيل شهد انفجار الحلم إبان
ثورتين للشارع السوداني على الحكم العسكري بكل جبروته وإنزاله من عليائه إلى
الرغام، جيل شارك ورأى بأم عينيه وذاق حلاوة تلاحم الجماهير من الأساتذة والطلاب
وماسحي الأحذية ومزارعي الجزيرة وسائقي الحافلات والقضاة والمحامين والأطباء وعمال
السكة الحديد وبائعات الكسرة. ونحن أيضاً
الجيل الذي شهد تمريغ تلك الثورات في الأوحال بواسطة الساسة الانتهازيين. ونحن
كذلك الجيل الذي مارس عربياً الحلم الكبيرمع الرئيس عبد الناصر, بتحرير فلسطين
وذاق مر الهزيمة وتقاسم مرارتها على نطاق الوطن العربي ويشاهد الآن تفرد
الإمبراطورية الأمريكية ولكنه يرفض الهزيمة والانكسار. ونحن أخيراً الجيل الذي رأى
باتريس لوممبا يقتله التآمر ونيلسون مانديلا مكبلاً في جزيرته وسجنه الكبير.نحن
الجيل الذي غني مع الجيل الذي سبقه أغنية طويلة للحرية وقاد تظاهرة مستمرة حتى خرج
مانديلا من سجنه ودلف إلى أوسع أبواب الحرية. نفس الباب الذي خرجت منه صروف
الاستعمار والاسترقاق والأبارتايد وسياسات الفصل والميز العنصري إلى مذبلة
التاريخ، وهو نفس الباب الذي ستخرج منه بقايا الاستعمار الجديد في العراق وكثير من
البلاد, وسوف تخرج منه الأبارتايد والفصل العنصري في فلسطين من فلسطين إلى أبعد
صقع من مذابل التاريخ. ليس هذا بالنشيد الانفعالي بمناسبة هذه المقابلة ولكنه
الإيمان القاطع.
كيف تبرر علو الصوت السياسيى على الثقافى فى هذه الأونة؟
لدي قناعة تامة أن السياسي العربي يلبس قفطاناً ليس
يملكه وأؤمن أن ذلك سبب انحطاطنا. ولن يعود الحصان أمام العربة إلا بذهاب كل إلى
موقعه الحقيقي. دعني اشرح ذلك لبرهة. في كل البلاد التي تقدمت يأتي السياسي من بين
الناس لينفذ ما يقترحه الناس ذلك منذ عصر الإمبراطورية الرومانية إلى عهد
الإمبراطورية الأمريكية مع اختلاف الطرائق. ولأعطيك مثالاً متخيلاً لكيف يدار العالم الآن: جلس
مفكران وتفاكرا في مصير أمريكا بعد خمسين عاماً أو مائة, وذلك على زجاجة بيرة في قهوة من قهاوى أي بلدة في أمريكا
واقترحا أن موقف أمريكا سوف يكون حرجاً إذا نضب البترول لديها ولم (تشهل) نفسها منه
في السنين القادمات خاصة وأن مناطق احتياطي النفط في العالم ليست صديقة جداً كما
يجب. حمل المفكران فكرتهما وهي ما تزال (خميرة) إلى مركز من مراكز الأبحاث. درس مركز
الأبحاث كل المعطيات وأرسل الباحثين إلى المناطق المذكورة في داخل أمريكا وبالطبع
خارجها وجمع المعلومات التي أوصلته إلى أن فرضية المفكرين صحيحة وأن البلاد
الأمريكية السنية ستكون في وحسة وسوف تندلق إلى أسفل سافلين في مقبل أيامها إذا لم
تؤمن بحبوحة مخزونها من النفط خاصة وأنها أكبر المستهلكين له في هذه الدنيا
والدليل على ذلك ثقب الأوزون. ولأن ما توصل إليه خطير، حمل مركز الأبحاث ماتوصل
إليه إلى مركز آخر وهو (كارتيل) شركات النفط وأعلمها من طرف خفي ومعلن بما سوف
يجري من نكسات في مقبل السنوات. وحملت شركات النفط ما توصلت إليه الأبحاث إلى
اللوبي (تبعها) داخل عش الدبور أي مركز التشريع (الكونجرس) الذي لم يتوانى في
استكتاب قانون سريع أجازه مجلس الشيوخ بسرعة البرق وبصم عليه الرئيس بأعجل ما
تيسر. هذا القانون يعطي الرئيس الصلاحيه لتوفير براميل النفط لأمريكا بالطريقة
التي يراها مناسبة. وأنسب طريقة رآها السيد الرئيس هي أن يكذب. فقط يكذب كذبات
بلقاء متتالية على نفسه وعلى الكونجرس وعلى العالم جميعه ليحتل أفغانستان ليقطع
الطريق على نفط بحرقزوين وبحر الخليج ولكي يحتل العراق ثاني أكبر احتياطي في العالم.
ليس هذا مغزى الحدوته (الحُجْوَة) بالسوداني. ولكن الهم أن المثقف المفكر هو من
نظر إلى وفي موضع الألم واقترحه كمشكلة عالقة وأشار إلى الجرَّاح الذي سوف يزيلها وأعطاه
كل معينات الجراحة. جاء السياسي أخيراً لينفذ ما اقترحه المفكر من البداية. والعربة الآن خلف الحصان تماماً. أما نحن في
عالمنا العربي وكل مواطن التخلف التي تسمى زوراً بالعالم الثالث فإن السياسي فيها
يريد أن يكون المثقف المفكر الفرد والمشرع الأوحد والمنفذ الأجدر وعلى هكذا منوال
تضيع مشاريعنا, في شم (الهوا) ولا أقول التقدم، وطنية كانت أو قومية دعك من
القارية.
عاصرتم جيلاً من العملاقة فقرأتم معهم الشعر على المنابر
فهل أديتم هذه الرسالة مع اجيال الشباب المعاصر؟
أنا أثق في الأجيال الشابة وأرى فيها مستقبل كل شيئ
وعملنا على التلاقح بشتى الطرق، كونا جماعة الشعراء والمغنين الجوالة والتي لم
تستمر طويلاً مع استمرار العلائق بين أفرادها وجميعهم شباب عداي وشاركنا في مهرجان
سحر القوافي للشعراء الشباب واستضفنا عن قصد شعراء شباب في منابرنا أينما دعينا
هذا بالإضافة للعلاقات والصداقات المباشرة بيننا ونفر مقدر منهم. ولطالما دعوت
كثيراً من الشباب للتلاقي والتفاكر وكثيرون يأتون إلى بيتي ويعرضون ما يكتبون ولا
نبخل عليهم بالرأي والمشورة ولكن مع ذلك كله على أجيال الشباب، مع المجايلة
الحادثة بيننا، أن تقتحم المنابر عنوة وأن تثابر في طرق كل سبل الوعي والمعرفة وأن
تسافر لترى هذا البلد المترامي الأطراف وأن تلتقي بالناس. ربما يتعذر على كثير
منهم السفر لهذا السبب أو لذاك ولكن عليهم بالناس أينما كانوا.
انعكاسات الفرقة والتمزق السياسى القت بظلالها فى أواسط
الكتاب والمثقفين فتعددت الكيانات ..كيف ينظر القدال الى تعدد الأتحادات والروابط
التى تدعى كل منها هو الكيان القومى للادب السودانى .. وأين أنت منها؟
تعدد الكيانات والاتحادات الأدبية والمراكز الثقافية
نعمة. على أن يعي الجميع أن السياسي يهدف أول ما يهدف إلى تغبيش الوعي حتى ينفرد
بالغلابة، وهو في عدائه الأبدي للثقافي. لقد تم للسياسي في السنين الماضية تدمير
التعليم فأصبحت الجامعات مفرخة للكتبيين الغائبين عن أبسط احتياجات المجتمع بدلاً
أن تكون مفرزة لقادة المجتمع وبقيت ركيزة المثقفين الأخيرة هي العمل على نشر
الوعي. ولكنها مضاعفة الثمن بانهيار التعليم.
العالم من حولنا تغيرت نظرته ونظرة حكامه الى الشأن
الثقافى ومناهج رؤيته ، وأدخلت النظرة الجديدة فى قائمة مصادر الدخل القومى..فأين
نحن من هذا؟
نحن في الوراء مادامت الثقافة في قعر قائمة أولويات
السياسي الذي هو التنفيذي أيضاً. مثال واحد أدرجه في التعامل مع الكتاب مقابل
التعامل مع السيخ. يمكن لأي مستثمر أن يجد الإعفاءات والتسهيلات الجمركية
والضرائبية ويمنح الأرض الاستثمارية لأنه يريد أن يبني مصنعاً بينما توضع كل
العوائق والعراقيل الممكنة وغير الممكنة
في سبيل الكتاب. وما حدث بخصوص معرض الكتاب الأكاديمي الأخير خير دليل. بل
صار الكتاب سلعة قابلة للإحتكار. لأ يعلم القائمون على الأمر عندنا أن أغنى رجل في
العالم (بيل قيتس) رئيس مايكروسوفت الذي تخلى عن رئاسته طوعاً ليتفرغ لأعماله
(الخيرية)، لا يعلمون أن ثروته نتاج العمل في البرامج والبرميجات الحاسوبية من
برامج الوندوز نفسها حتي ألعاب الكمبيوتر. لا علاقة له بالنفط ولا بصناعة وبيع
الأسلحة ولا السمسرة في أي شيئ. فقط صناعة برامج الحاسوب وهي برامج ناتجة عن إعمال
الفكر أي منتج ثقافي في المقام الأول.
معروف عنك دفاعك المستميد عن فكرة الإدارة الجماعية فيما
يتصل بالملكية الفكرية وحقوق المؤلفين والملحنين ..ما هى حقيقة الخلاف بينك وبين
الجهات المختصة فى هذا الشأن؟
أولاً لابد من الإشادة بعدد من المهتمين وعلى رأسهم
الشاعر الصديق الأستاذ هاشم صديق. فهو بحق رائد الفكرة والتنفيذ. لنا في السودان
قانون لحماية حق المؤلف منذ بدية السبعينات من القرن الماضي ولكنه ظل هامداً لم
يفعَل من خلال التفاوض مع الجهات المستعملة للحقوق أو حتى على سبيل التقاضي فصار
قانوناً بلا سوابق. وبذلك اضمحلت التجربة العدلية وتجارب الرقابة وتجارب التحري
ولا تسأل أصلاً عن تجربة التفاوض على الحقوق. ولكن جاء وقت انتبه فيه أصحاب الحقوق
الضائعة بالسنين لحقوقهم وعندما بدأت المطالبات تمترس المستعملون لهذه الحقوق في
خنادقهم السلطوية ذلك لأن أغلب هذه الاستعمالات والاستحقاقات تخص الإذاعة
والتلفزيون وهما الجهازان الحكوميان اللذان هضما أغلب الحقوق منذ نشأتهما في
أربعينات وستينات القرن الماضي. إن قوانين الملكية الفكرية وبالأخص قوانين حق
المؤلف والحقوق المجاورة قد أعلت من قيمة التفاوض على هذه الاستحقاقات حتى لا
يتضرر المجتمع. ولذلك وجبت الحاجة إلى إنشاء جمعيات حق المؤلف لكل ضروب الإبداع
حتي تستقيم أجراءات التفاوض والتبادل والتحصيل والتوزيع. من هنا أحي أتحاد المهن
الموسيقية لمبادرتهم بإنشاء جمعيتهم الحقوقية والتي تشمل أيضاً كتاب وشعراء
الأغنية. وسوف تحذو كل أصناف الفنون الأخرى حذوها مما مما يترتب عليه ضبط وتأطير العلاقة
بين المبدع ومستعمل هذا الإبداع والمسألة برمتها مسألة وقت.
المتأمل فى حصيلة أعمالك الشعرية منذ أواسط السبعينات
وحتى مطلع الالفية الثالثة هذه يلاحظ أن هنالك فترة من انقطاع التواصل أو اضمحلال
النتاج أو قلة النشر على الساحة ما بين آوخر الثمانينات حتى الفين وسبعة لماذا
تعزى ذلك؟
أنا أساساً مقل وهذا عيب كبير ومؤلم أعترف به. وهو مؤلم
لأنك ترى الأحداث تجري أمام عينيك في تسارعها ولا تستطيع اللحاق بها ولكني تعلمت
من الخال الأبنودي أنه يجب أن تقول كلمتك مهما كان وتمضي:
منين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه
إذا كنت باجي أقوله نصّ عقلي يتوه
ولكن أيضاً ليس انقطاعاً بالمعنى الأعم للكلمة ففي هذه
الفترة أنجزت أعمال أعتقد بأهميتها مع قلتها.
فى مصر يشكل الأبنودى علامة فارقة فى تاريخ الشعر ويجمع
النقاد على أنكما مدرستان كلاً فى وطنه..كما أنه من المعروف أن بينكما صداقة عميقة
حدت بك الى تكبد مشقة السفر من أمدرمان الى الاسماعيلية لزيارته والأطمان عليه بعد
عودته من رحلة العلاج فى باريس ..كيف وجدته وماذا تقول عنه؟
حسناً أنك لم تقل يشكل علامة فارقة في تاريخ الشعر
العامي. لأن الشاعر الخال الأبنودي فعلاً علامة فارقة في تاريخ الشعر العربي كله
عاميه وفصيحه. هو من صنع هذا الممشى الوريف الذي التقت فيه الفصحى بالعامية
وتصافحتا بالود كله بعيداً عن القبليين والجهويين الذين أرادوا أن يجعلوهما حارتين
متناحرتين ليقفوا هم (فتوات) بالنبوت على عتبتيهما. إن شعر عبد الرحمن على مر
الأيام يعطي للشعر مرقىً لم يتأتى له منذ المتنبئ حتى عصر الركود الفصيح وازورار
الشعر إما في قوالبه الجامدة أو داخل أبراجة العاجية المنغلقة بالرمز الملغز. لقد
استطاع الخال أن يذهب الى الفلاح البسيط في أبنود والمُزارع في (حليوة)، وأعني
بذلك كل البسطاء في العالم العربي، ذهب إليهم بلغة يفهمونها ويفهمون حصافتها بحصافتهم
الفطرية فتأخذهم إلى مناطق الوعي فيهم. الوعي بآلامهم وآمالهم، بأتراحهم وأفراحهم،
بانكساراتهم وانتصاراتهم. ولأنه ابن فاطنه قنديل باندلاقها العفوي في (عدودتها)
وابن الشيخ محمود الشاعر الفصيح ومأذون البلد ولأنه ابن أبنود حراجي عامل التراحيل
وابن قنا ملتقى القبائل العربية ومنفذ الحج، لكل ذلك ما استشكلت اللغة العربية
ولهجتها الدارجة لديه بل رقى بالشعر العربي كلما رقي بالشعر العامي باستنطاق ابواب
واستنبات أساليب وقوالب كادت أن تندثر في الشعر الفصيح. إن شعر الأبنودي كان وما
يزال البلسم لجراح الأمة العربية من طنجة إلى سِـنجة (في السودان) إلى جميع الشرق
العربي. معها في جميع أحزانها منذ أن قدم إلى قلب القاهرة ولم ينقطع عن أبنود.
وأيضاً معها في كل أفراحها وأمانيها. ذهب إلى السد العالي، كما قال، لا ليكتب
جوابات حراجي القط ولكن ليأكل ويجوع وينام ويسهر معه ومع العيال القادمين من كل بر
وذهب إلى السويس أيام حرب الاستنزاف وعاش مع عم ابراهيم أبو العيون وأهل الشط لا ليتفرج
على وجوه الشط ويكتب قصيدة وصفية من على الرصيف كان في وسط القنابل الثقيلة
والخنادق الرهيفة لأنه يؤمن أن :
الكلام آخر المطاف هو الكلام
والدم دم.
القصيدة توصف الدم الزكي
ماتشيلْش نقطة.
توصف الأم اللي ماتت بنتها قدام عينيها
بس وصف.
وصف جيّد .. وصف خايب
وصف صادق .. وصف كاذب
في النهاية .. كله وصف.
كل شعر الوصف ..
ما يساويش في سوق الحق صرخة.
اقتطع الخال ثلاثين عاماً من عزيز عمره لا يقنط إلى
الكلام الوصف. يطوف القرى والنجوع مع شعراء الربابة الأعمام جابر أبو حسين وسيد
الضوي وهو يجمع السيرة الهلالية ومع ذاك
الانشغال لم ينقطع نهره الدافق من طرح الخصب والخضرة والجمال من الشعر الجيد. وكما
أشار كثير من الكتاب والنقاد أنه لو اكتفى بذلك لكفاه ولكنه هو الخال عبد الرحمن
الأبنودي يحلق دوماً في الأعالي ويعطي بلا انقطاع.
قرأت الخال قبل أن ألتقيه والتقيته في 1977م وعمري 25
سنة عندما زار الخرطوم في مهرجان الثقافة. قدمني إليه الأستاذ مبارك المغربي عليه
رحمة الله في نهاية ليلة شعرية فصيحة أقيمت على شرفه كنت فيها أصغر القوم والوحيد
الذي يكتب بالعامية ومنذ تلك الليلة وهو يصطفيني بمحبة وصداقة هما مبعث اعتزازي وكان
فيهما نعم الخال ونعم القدوة. وما جاء ذكر الشعراء في الوطن العربي إلا وطوقني
بحبه. وهو يعرف الكثير من تراث الشعر العامي السوداني ويرويه باستمتاع ويتغنى بشعر
المديح والدوبيت ويستطعم مُلح وطرائف صديقه الطيب صالح ويردد شعر صديقه اسماعيل
حسن رحمة الله عليه ويدرك هو كما أدرك أنا وبوضوح تام أننا نمتاح من نبع واحد.
نبعه هو. يمتزج بالنديم والتونسي والحداد وجاهين والشعر العربي من المعلقات إلى
الحداثي ومن الحاردلو وطه الضرير إلى جميع شعراء مديح المصطفي صلى الله عليه وسلم
في السودان.
في الإسناعيلية كاد سائق التاكسي أن يتوه بي وكان الخال
في أشد القلق يتابعنا بالجوال وأنا أشفق عليه من الانفعال وأخيراً وصلت (لآية ونور)
وفرحت به وفرح بي وقضينا معاً ساعات تمنيت ألا تنقضي صوَّرته بجوالي لدقائق
وأعطاني أحلى مانجو ذقته بحياتي (ونبقات) مما زرع وتحدث عن درويش، ذلك قبل أن يرحل
درويش بيومين فقط وذكر أصدقاءه الشعراء السودانيين الذين رحلوا في الشهور السابقة
بحزن شديد، محي الدين فارس ومصطفى سند وقال لي عن أشجاره وازهاره بحب فلاح مصري ودرايته.
أنت لا تمل الخال عبرحمان ويكفي أن ترى ابتسامته التي عادة ما تبدأ بعينيه وهي
تضيق بهجة ومسرة ثم تملأ جميع وجهه وتفيض إليك فتعبئ قلبك بالفرح وقلبك يقول لك أن
الدنيا مازالت بخير مادامت تشع بابتسامة الخال عبرحمان. لقد كتبت شعراً بلهجات
شامية وخليجية ولهجات سودانية على تنوعها ولكن لم أكتب باللهجة العامية المصرية قط,
تحرجاً من أن ألج ساحة فيها الخال وكفى. ولكني أردت فقط أن أرسل للخال تمنياتي
بالصحة والعافية فجاء هذا الموال بعاميته المصرية ولا يلتزم بصارم نهج الموال، تحية
متواضعة ولكنها صادقة أبعثها إليه واماني مستمرة له بالصحة والعافية وله العتبى
حتى يرضى.
موال
للخال
الشمس
شمس الأصيل .. والمنجه لون الدهبْ
طـايبه
لبقّ الفـقير .. وكلّ من هـب ودبْ
طايـبه
يا عم ابراهيم .. وبالأمـاره عسـل
طايبه
في سقف السجر .. بس النظر ع العتبْ
صحة وعافيه ياخال
ع
الشـط نام السبيط .. والتـرعه فركة كعبْ
يا
عمي روح اسـتحم .. قال السـبيط للرطبْ
فـينك
يا عم ابراهيم .. فرْحك لعندك وصـلْ
الـفلّ
مسـتنظرك .. والورد عـندك عـجبْ
صحه وعافية يا خال
عـطشان
وقـلبك سبيل .. م الحزن عبا وعَبْ
حُب
الخلايق تقيل .. جواّكْ في ممشى العصبْ
الواد
تاه يا ابراهيم, (آيـه ونـور)(*) لم وصلْ
قـلب
الحبايب دلـيل .. نـبق الحبايب عـنبْ
صحة وعافية يا خال
ياغـنوة
يا محـنيّة .. شـعرك بـلون التعبْ
هوّ
اللي من سـمرتك .. مشّى الغنا ع اللـهبْ
غـنوة
لـعم ابراهيم.. غـنوة لـبُكره.. أمَـلْ
هوّ
اللي قـال للحزين.. ياحزن تَـبّـاً وتَـبْ
صحة وعافية يا خال
درويش
في حضن الغيطان .. طولان ونُصك خشبْ
يا
عود مخضّر عيدان .. نشاب في صدرك نَشَـبْ
يا
بو العـيون يا ابراهيم .. قـال لك بيان بالعـملْ
عـيني
وبارده عـليه .. سـبعين ولسََّـاتو شـابْ
صحة وعافية يا خال
و
الـدنيا مـن بسـمته .. وش النهار انحســبْ
أنا
وانت يا بوالعـيون .. نكسب حـبيب ينكـسبْ
غنوة
.. ياعـم ابراهيم .. معجـونة طمي بْطَـمَـلْ(**)
مــوال
وخالي دا خال .. لُه في الـهلالي نســبْ
صحة وعافية يا خال
(*)
بيت الأبنودي بالإسماعيلية
(**)
الطمي رقيق القوام واكثر سيولة
حليوة
- الأربعاء 1/10/2008
كيف ترى التواصل الثقافى بين مصر والسودان ؟
من الطبيعي والمصيري أن يكون على أوثق ما يكون. ونحن
ندرك تماماً أن زعزعة السودان مقصود بها أمن مصر وقوة مصر ومستقبل مصر الرائدة
والقائدة. وأن السودان الواحد القوي بأرضه وخيراته سند لمصر والأمة العربية وزعزعة
استقرار السودان هدف استراتيجي لجهات مجيرة لصالح العدو الصهيوني لخنق مصر أو على
الأقل تركيعها ليتم لهم الإستفراد بالأرض الفلسطينية بعد أن استفردوا بالفلسطينيين
في غزة وفي الضفة كذلك. ولكن لن يستطيعوا هدم السودان ولا تركيع مصر ولا اقتلاع
الشعب الفلسطيني. ويجب علينا جميع المثقفين في مصر والسودان والمثقفين العرب مجابهة
ذلك كقضية استراتيجية تهم شعبي وادي النيل والأمة العربية من أجل الأجيال القادمة
حتي لا نعيد المراثي الأندلسية في تاريخنا مرتين. اللهم هل بلّغت؟ اللهم فاشهد.
ماذا عن ديوانك الجديد غنوات لحليوه ؟
جئت إلى مصر لغرضين الأول أن ألتقي الخال وأطمئن على
صحته بعد الوعكة وقد كنت أتابع حالته وهو بباريس وقد احتفلنا جميعنا، هو وأسرتي
الصغيرة بعيد ميلاده من داخل المستشفى عبر الهاتف. والغرض الثاني أن أقوم بطباعة
ديواني الأول الذي تكفل الخال بطباعته صوتياً على شريط كاسيت في زيارتي السابقة
التي قمنا فيها معاً بإلقاء دويتو لقصيدة مصر المأمنة للشيخ البرعي وأنشدها
الفنانون علي الحجار وإيهاب توفيق ومي توفيق من مصر والفنانون شرحبيل أحمد وفرقة
عقد الجلاد الغنائية من السودان كأول عمل إنشادي سوداني مصري مشترك. كلا الغرضين
تما بحمد الله باطمئناني على صحته وبطباعة الديوان. أرجو منه تعالى أن ينعم عليه
بتمام ودوام الصحة والعافية.