الخميس، 16 أكتوبر 2014
عمر الدوش وضل الضحى (3)
جريدة الصحافة 2000م
طه المدرس (ود خدوم) ولقد حكى لي أنه بدأ مدرساً في مدارس الدوش قبل التحاقه بدراسة المسرح. كان مستمتعاً بعمله وكان عمه (العميد) يقتطع شيئاً من مرتبه لحكمة يعلمها ولكن الباقي من المرتب كان كافياً في تلك الأيام ليعيش المدرس الشاب في بحبوحة ولذلك ما كان ليهتم كم كان عمه يقتطع ولم يسأل عن السبب . غادر المدرس الشاب للدراسة في بلاد التشيك وقضى أيام وأعوام الطلب وعاد إلى السودان وقد نسي ما كان من أيام التدريس في مدارس عمه لتنتظره المفاجأة السعيدة والتي تدل على الوفاء وبعد النظر. لقد اشترى له عمه أرضاً فسيحة في (امبدة) بما كان يقتطع شهرياً من مرتبه فأدرك حكمة عمه بعد زمان. وتعاون طلاب المسرح في ( نفير) سوداني صميم فقام حائط هنا ونهضت غرفة هناك حتى صار لعمر الدوش ولأصدقائه مأوى يستظلون به وصار بعد ذلك ملتقى للشعراء والفقراء و (المغنين المطاليق) وهو ذات المنزل الكائن الآن والذي اخترت أن أكون جاراً له ولكن عمراً غادره سراعاً إلى دار أخرى لا إيجارة فيها ولا تملك. وعندما يكتب الدوش يستلهم تجربته الشخصية كان ذلك في إطار المسرح أو التدريس وتكون أدواته طيعة بين يديه فهماً ومعرفة وتتقافز العلائق الإنسانية الحميمة بين المدرس والطالب التي تميز بها الدوش عن جميع المدرسين والمسرحيين وتتبدى بينة في فهمه وتقديره العميقين للآخر. فقد خط الدوش لنفسه خطاً واضحاً في تكييف علاقة المدرس بالتلاميذ في مدارس الدوش ولاحقاً بين الدوش المدرس وطلابه بقسم المسرح في كلية الموسيقى والمسرح فهي علاقة الصديق بالصديق بما في ذلك من معاني الصدق والوفاء والوضوح والأريحية والاستعداد الدائم لمد يد العون والمساعدة. وكم رأيته يفيء إليه طلابه في داره طلباً للمساعدة في أمور دراستهم وهو يلاطفهم ملاطفة الند ولا يبخل عليهم بعلمه ويرفدهم من تجربته الثرة رفداً. ولا غرابة أن يستهل طه المدرس (ود خدوم) ويبتدر تلاميذه: يا تلاميذي العُزاز بسم الله وأكاد أراها (بسم الله) مكتوبة على السبورة وبعدها التاريخ (خمستاشر ربيع أول) وهو ترتيب المدرس والتلميذ معاً على السبورة و على الكراسة في آن واحد وفي تناغم وفهم متبادلين. وهو تاريخ له ذكر وموافقة ومرافقة: (اكتبوا التاريخ خمستاشر ربيع أول والموافق مولد الإيقاع على خطوات سعاد والمرافق للصباحات، المناحات واخضرار الغيم وفقدان الشعاع ارتفاع الموجة لى صدر الشراع) يبدو هذا التاريخ غريباً للوهلة الأولى ولا أجد له تفسيراً و ما أسفت على شيء أسفي على أنني لم أسأله عن كنهه ولا أظن أبداً أنه جاء هكذا بلا هدف أو دلالة. ربما ما كان ليجيبني لو استفسرته ولكنني لو كنت استفسرته ربما كان أعطاني بعض الإشارات. إنه تاريخ استثنائي دون الأيام الأخرى يصطحب النواح (صباحاته) وتتكاثف غيومه تحجب شمسه فيتواتر الإظلام وتتعالى فيه أمواج الغرق وتتجاوز المركب إلى أعلى الشراع ولقد أجريت محاولة على (الحاسوب) للرجوع إلى هذا التاريخ لعدة سنين خلت ربما أجد المقابل الميلادي لهذا التاريخ (15 ربيع أول) وما يمكن أن يحوي بالمقابل من دلالات ربما تضيء أكثر ولكن ربما لأن اختياري للسنين إلى الوراء كان عشوائياً لم أعثر على ما يفيد حالياً ولكني سوف استمر في المحاولة. ويتوالى الحوار بين الأستاذ والتلاميذ لأن العلاقة بينه وبينهم ليست علاقة إملاء وأمر فإذا طلب أن يتركوا مسافة بينهم سألوه عن مقدارها وإذا طلب منهم أن يتركوا فراغاً لم يمروا عليه سدى بل استفسروه عنه: يا تلاميذي العزاز خلي بينك وبين زميلك زي مسافة - قدر إيه؟ - قدر المسافة البين عيوني وبين سعاد قدر آلاف الفواجع وانهيارات الحصاد قدر مسحوق الأنين في تواريخ البعاد اكتبوا ……….. - وديه إيه يا استاذ يكون؟؟ - دا المجنن طه.. اسألوا ود سكينة. ويعود علي ود سكينة من جديد لا ليفسر الأشياء ولكن ليدل عليها ويشير إليها فقد جاء ذكره لدى سعاد آنفاً حتى خشينا أن يكون علي ود سكينة هو نفسه محمد ود حنينة: )- هييييييييي يا سعاد علي ود سكينة وكلتي في خشمو الماد ( علي ود سكينة ومات أسى والآن يجعله طه المدرس ود خدوم مرجعاً يدل على المبهم والغامض والغير منطوق. وتتوالى بعد ذلك الأضداد متدفقة : ( الريح المسافر في تجاعيد السكينة) ( الموج اللي ساكن في مسافات السفينة) (اللحظ البيضحك وهو جارح) (اكتبوا العنوان بخط مستور وفاضح) وكانت الخيبة الكبيرة عند طه المدرس ود خدوم الذي كانت حياته، كما يحكي عنها بنفسه، مهزلة متصلة: - اكتبوا
(عاشَ
في زمن المذلة
المدعو طه ود خدوم باع تفاصيل الكآبة عشان يفرّغ وتاني يملا جاع وخيرك يا سعاد مردوم ردوم عاش المدرس ود خدوم كأنه نكبة-كأنه شوم) وهو في رواية أخرى:
(حتة
معلم مبتدئ
غاوي وبسيط ولو ما خدوم كان من زمان محسوب لقيط) ولكنه ممتلئ بحب سعاد التي تتراوح بين الأرض (البلد) و الحبيبة: (وانا يا سعاد فتشت ساحات الأماني ناصية .. ناصية حجر حجر ما لقيت إلاك بلاد) (قامت سعاد من رقدتا الكون جميع كان انحصر ما بين قيامها ووقفتا النخلة والهجليجة والسيالة والشوق والمطر والغابة والهم القديم والفرحة والذل والخطر كله انجمع في كفتا قامت سعاد من رقدتا قامت قيامة العمدة مليون اتجاه العمدة الذي جعل من يوم الحزن والحداد العام يوم احتفال بضيفه الزائر الكبير وقد تداخل الحزن العام مع الحالة الخاصة بمحمد ود حنينة الذي يقبع في سجن العمدة الذي كان المدرس (طه ود خدوم ) أول زائريه في محبسه لإبلاغه أن (الحلة) قد امتنعت عن بكرة أبيها عن استقبال زائر العمدة (الكبير) وأنه: (لا زول هتف لا كف مشت بتلاقي كف والعمدة زي همبول وقف) (يتبع…. مع صالح (ود قنعنا) الخضرجي) |