الأربعاء، 10 سبتمبر 2014
قدله يا مولاي
أحمد
الحسن محمد عثمان
10/9/2014
لم يعد
القدال، في اعتقادي، شاعراً يتوسل إلى اللغة لتعبر به إلى ضفاف المعاني إذ أن
الأرجح أن اللغة هي من تقف الآن على أعتابه عسى أن يحملها بمعانيه ورؤاه إلى
الضفاف القصية حيث تشف الكلمات حتى تكاد لا تكون.
وربما
يلزمني بداية أن اعترف بأن هذا الإحساس المذهل بخفة الكلمات وأثيريتها لم يتملكني
بهذه الكثافة منذ أن فقدت ما بقي من صوابي بعد قراءة مواقف النفري ومخاطباته.
لنقل أن
الأمر في مجمله مرتبط بفرادة النص الشعري عند القدال وبالقصيدة التي لا تزحف بحثا
عن معانيها وغاياتها باستهلاك مفرط للكلمات ولكنها تتخذ مسارا أفقيا متصاعدا ينأى
بالقارئ والمستمع عن حدود الأرضي واليومي والمبتذل.
هذا
النوع من الملاحظات يفترض أن يفضي بنا إلى
الحديث عن أدوات الشعر وأغراضه غير أني لست معنيا بهذه التفاصيل في غمرة انشغالي
بروح الشعر في أعمال القدال.
وإذا
كان لي أن أعتبر { مسدار أبو السره } نموذجا معياريا فان أول ما ارتقى بي إلى
مستوى مغاير من الوعي عند سماعها هو مناخها ومزاجها الرؤيوي { أبوكاليبتيك } الذي
يوقظ في الذاكرة أعمالا إبداعية ك{ سيد الخواتم } وروايات ماركيز وفارغاس يوسا . في هذا المسدار تحديدا ، ترتفع
شاعرية القدال إلى مصاف الهذيان الصاعد من روح تستمد شحناتها المبدعة من ذلك
التماهي المطلق والمرعب مع دقائق الكون وموجبات الوجود.
وإذ
أقول الهذيان أو الهضربة أو الانخطاف فإن ما أعنيه بالتحديد تلك الحالة التي يصبح
فيها الشاعر صوتا لغيره من الكائنات أو يصبح وترا تتفتق أحشاؤه كلما هبت عليه
الريح. غير أن الشاعر لا يرتقي تلك العتبات المفضية إلى جوهر الشعر وروحه إلا بعد
تحوله من كونه الرائي إلى حالة يصبح فيها الرائي والمرئي والرؤيا.
وفي مثل
هاته الحالات يمكن الحديث عن الشعراء
المجانين الذين تجاوزوا سياق العقل البشري المتعارف عليه ليصبحوا جزءا من مصفوفة
العقل الكوني. ثمة شواهد عديدة على مثل هذه الانفلاتات في الشعر والرواية ومختلف
ضروب الإبداع. ولعله يكفي أن نتساءل على سبيل المثال عما إذا كان المتنبي في تمام
عقله البشري عندما قال:
إني
لأطلب من زمني ذا أن يبلغني
ما ليس
يبلغه من نفسه الزمن
أو ما
إذا كان شاعر الهايكو الياباني عاقلا،
بحساباتنا القاصرة، حين داخله الشك ولم يعد يدري ما إذا كان رجلا حلم في أمسه بكونه
فراشة أم أنه فراشة تحلم في يومها بكونها إنسان.
ولعل
الشاهد هنا أن اشتباك الإنساني في الشاعر مع الكوني في روح الشعر يفتح أمام القدال
مسالك متشعبة وغير مرئية باتجاه رؤى ومجرات جديدة قد نتحرر فيها من بؤس معيشنا
اليومي الكالح حين تصبح كل البلد "حليوة " دون قيد أو شرط. فبقدر ما
تكون الحياة عصية ومستحيلة ومحفوفة
بالمخاطر، يصبح صوت الشاعر الفذ ترياقا ضد كل أنواع السموم التي تقتل في دواخلنا موهبة
التحول إلى قطيع من الفراشات.