الاثنين، 9 يونيو 2014
مَجــالُ الجَمــالِ
محمّد طه القدّال
الغناء بجمع المخنَّث السالم
(2:1)
وما نسمع الآن من
غناء نتهمه بالهبوط، هو ليس بالغناء الهابط. فالهابط يأتي من (الفاعل) أي المستمر
في فعل الهبوط ولم يصل إلى مستقر حضيضه بعد. كأن نقول (النامي) فهو مستمر في فعل
النمو ولم يستقر في قمة ازدهاره بعد. فنقول هذا بلد نامي دون أن يعني ذلك أنه قد
غادر المستنقعات الآسنة ثلاثية الكساح (الجهل والفقر والمرض) إلا قليلاً. فما نسمع
من غناء ونتهمه زوراً بالهبوط، يحتاج منا إلى مفرزة من المصطلحت وأيضاً من الشعراء
كما قال أخونا الشاعر محمد مدني. فهناك غناء البنات الحسناوات اللائي يتغنين بأحبابهن
الأولاد أخوان البنات. وهذا غناء سمعته أجيال وأجيال وهو غناء جميل في الشكل
والمضمون وفيه (تتحكَّر) أم ضفاير وهي (تنقرش) ممسكة بالدلوكة وتتفنَّن في (شِكِر)
حبيب القلب، طبيق الضيق، رفيق الأحلام. ولكن نفس هذا الغناء يصير منفِّراً وقبيحاً
شكلاً وموضوعاً عندما يكون (المتحكِّر) إلى الدلوكة أو الأورغن أو القرطاس، لا
فرق، أحدهم من الأولاد (البشبهو البنات البشبهن الأولاد البشبهو البنات). ويؤيد
المغني غناءه أوشعره بالشكل الذي يناسب حالته من تلوين الوجه والعيون وتقليم
الحاجب و(شيل) الشنب و(بالحلاوة) كمان، أو وضع الشنب الباروكة لزوم السوق، أو في طريقة
الكلام والجلوس التي تشبه طريقة البنات (البشبهن الأولاد البشبهو البنات البشبهن
الأولاد). وعندما يتغنى شبه المذكَّر هذا للمذكَّر السالم فهناك إشكالية مفاهيمية
وأخلاقية وأيضاً خلط مصطلحي. ويجب فرز الكيمان. فنقول لهؤلاء قولوا لنا (بالمفتشر
كِده يعني): "يا أهل الله هووووووي، نحن
(قيزان) أي (Gays)" ولنا غناؤنا ولنا شعرنا ولنا طريقتنا في اللبس ولنا
طريقتنا في الكلام ولنا حقوقنا المهضومة والمعتدى عليها عبر الأزمان والتي سوف
نرفعها لمجلس جيرقا الأفغان ولكونجرس الأمريكان وللأمم المتحدة ولمنظمات حقوق
الإنسان. وحينها يكون غناء عامة أهل السودان قد (انفرز) تلقائياً ويصير معروفاً
لدى الكافة في الداخل وعبر البحار أن ما يسمعونه في حفلات الأعراس وعبر الفيس بوك
واليو تيوب وبعض القنوات الفضائية هو غناء فئة (القيزان) من أهل السودان الذين
كانوا في يوم من الأيام (يقيفوا صقرين على أشنابـهم). ويكون معلوماً لدى الجميع أن
هذه الفئة لا تمثل واحداً من الألف في المية من مجموع بشرية أهل السودان أو شباب
السودان عبر فيافيه ووهاده والمنتشر في قراه ومدنه. هم قلة لأن فيهم الكثير من هم
(منجر) مع الموجة وفاكرها موضة. ومنهم من وجد فيها مجالاً (للعداد) المضمون
والوفير فركب الموجة وآخر الموديل. ولن
يكون لنا معهم إشكال فيما يتغنون أو يكتبون طالما الكيمان مفروزة. ومنذ قديم عهد
الغناء في السودان كانت هناك فئة (كبي لي جالون) وكان هناك الغناء (الدكاكيني)
ولكن ظل الدكاكيني دكاكينياً منـزوياً في جلسات الأصدقاء أو في حانة أو كرخانة،
ولم يخطر ببال أهله أنه يمثل مزاج كافة أهل السودان و(الما عاجبو، البحر شالح
واللون كالح والطعم مالح)، أو كما يقولون. إن ما نسميه بالغناء الهابط ذاك في ظلٍ
ممدود ومظلوم ومفترى عليه. نحن الآن في مرحلة الانحطاط الأخلاقي والمفاهيمي
واللغوي والشعري والموسيقي. أنحطاط شامل في المجالات كلها. ولكن الحمد لله ما زال
هناك من شبابنا من لم يتلوث بهذا (الإيبولا). كيف يصير الغناء العادي للحبيب
وللحبيبة وللأم وللوطن وللأرض وللطفل وللزارع وللعامل هو الغناء (الدكاكيني) المنـزوي
في أضابير الإذاعات المحترمة أو غير المحترمة في حقيقة الأمر، أو في أرشيف أتحاد المهن
الموسيقية؟ وأقول الإذاعات غير المحترمة لأنها لو احترمتنا واحترمت تراثنا الثقافي
واحترمت نفسها لأفسحت المجال لغناء جملة أهل السودان العادي وأسمعته لجملة أهل
السودان العاديين صغيرهم وكبيرهم حاضرهم ومغتربهم ولما كبلته وخنقته وأحرقته
بدعاوى الدين والدين منها براء ولما صار هذا الانقطاع والبون الشاسع بين الأجيال
ولما كان هذا الجيل من بعض مستمعي الشباب منبتاً لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
ومثله الأعلى في القول والفهم:
لو درتَ تبعِد .. تشيل قلبي من قلبَـك
بتلايق معاك .. ببقي ليك في حلقَـك
وسوف نبدأ في العمود القادم بما
انتهينا.
تم
النشر: عقد الفنون الأحد 6/8/2011